السر الخفي للعالم الحديث

السر الخفي للعالم الحديث
لكي نفهم عالما ما لا يكفي أن ندرسه في مظاهره البادية فحسب، بل من خلال روحه التي تتوارى خلف مظاهره الرائجة، التي تبدو كمصباح سحري خفي يسقط شعاعه على شاشة التاريخ صورا معدة سلفا.
ما يهم الناظر هو ذلك الذكاء واليد التي تبدع هذا التاريخ الاصطناعي المزيف، والتي تكمن خلف هذا التاريخ وهي سبب نتائجه. إنها القوة التي تقود إلى مضاعفة المظاهر، التي نبادر لدرسها في وحدة أساسية تحزمها، لا تراها العين الذكية المدققة، لذا فهي عصية على من لا يعرف كيف يفكر فيها.
فهذا العالم قد أبدع العصر الحديث في تنوعاته المتسارعة والتي برزت في آلاف المظاهر المفاجئة: الديمقراطية. الشمولية. الرأسمالية. الماركسية. العبودية الشخصية. الاسترقاق. العمل الجماعي. الاستعمار. إعلان حقوق الإنسان. نظام الإنديجانا.
ولكن ... هل ثمة شيء ما خلف هذه العناوين وما توارد من هذه المظاهر؟
هل ثمة حقيقة ما تبدو خلف الكلمة نفسها (العالم الحديث)؟
كل امرئ يعرف عندما نسمي عالما حديثا أن هنالك ظاهرة اجتماعية ولدت وسرير ولادتها (أوروبا)، أما تاريخ ولادتها فذلك ما أطلق عليه اسم النهضة الأوروبية (La Renaissance) ، وهنا يمكن أن نسميها (الحضارة الأوروبية المسيحية).
وهكذا يتحدث التاريخ الرسمي المعتمد.
ولكن يبقى لنا السؤال في النهاية: هل هذه الهوية هي أصلية (Authentique) في العمق؟
هل هي الحقيقة كما هي بادية في مظهرها أم لها جذور في موطن لها؟
هنا نشير إلى ما كتبنا من قبل في (شروط النهضة)، فالأحداث الكبيرة لها ولادتان: ولادة تطابق الظاهرة النفسية، وولادة كطابق زمنيا معها.
بالنسبة للمؤرخ فالتوقيت الزمني هو الذي يأخذه بعين الاعتبار، لأنه ينظر إلى الحدث في تسلسله التاريخي. أما عالم الاجتماع والفيلسوف فالتوقيت النفسي هو الذي يأخذه بعين الاعتبار؛ لأنه يشير إلى الحدث في تسلسله السببي.
وهنا لا نقف كثيرا عند ولادة العالم الحديث الذي نسميه النهضة الأوروبية (La Renaissance)؛ لأن الذي يهمنا هو معرفة أي حلقة من التسلسل السببي كانت الولادة.
إن أوروبا هي مهد العالم الحديث، لكن الحدث الرئيسي لكلمة أوروبا في التاريخ هو وصول اليهود إليها كشخصية مستقلة عن الفكرة المسيحية، وهي التي سيطرت على سائر تسلسل حضارتها كما سوف أثبت في الصفحات التالية.
لكي ننطلق من نقطة تكشف لدراستنا فهم تطور العالم الحديث؛ علينا أن نبدأ من مرحلة تيه الشعب اليهودي (الدياسبورا الشهيرة) وقد انطلق فيها الشعب اليهودي نحو البلاد الأوروبية عقب هدم الهيكل في القدس.
لم يسأل أي مؤرخ: لماذا أخذ الشعب اليهودي هذا الاتجاه دون سواه؟ علما أن الاتجاه نحو آسيا هو الأجدى والأجدر والأوفر لأسباب بادية؛ فاليهود ينتمون من حيث الجنس إلى أصل شرقي، ثم إن الرخاء التجاري والحضاري يحتم اختيار الانطلاق نحو مدن تتلاقى فيها عقدة الطرق التجارية والعالمية، كما هي حركة الانتقال بين الشعوب لألفي عام بين الهند والصين، وهذه الطرق تتلاقى حين تمر بالضرورة عبر الشاطئ اليمني
- الطريق البحري -أو عبر فارس وآسيا الوسطى عبر خطوط القوافل.
هذه العوامل تجعل اليهود من سائر الوجوه يتجهون نحو الشرق وليس نحو الغرب.
لكن اليهود أداروا ظهورهم لذلك كله، وقادوا خطاهم نحو بلاد أوروبا الفقيرة غير المتحضرة (geallo-romaine) (الرومانية) رغم قساوة المناخ الذي لا يرحم طفلا ولد وتأقلم في بلد حار.
هذا الاتجاه المناقض لمنطق الأمور لا يمكن تفسيره من زاوية ما عرضنا من التساؤلات التي تبنى على واقع عصر مضى، ويظل من دون ذلك حدثا يلقي على تلك النقطة المظلمة شعاعا واحدا؛ إنه الطريق الذي خطه شاؤول الذي أصبح فيما بعد القديس بول.
لقد ترك دمشق حين طلب إليه أبوه - وهو ربي كبير - التوجه نحو الشرق لتعليم الأمم، لكننا نرى في كتاب الأعمال أن القديس بولس أدار ظهره بصورة نهائية لبلاد الشرق، وحول رفيقه في خطته الكهنوتية التي كان قد أعدها، ثم ولى وجهه نحو الغرب ليبشر بالمسيحية.
نحن هنا أمام إرادة نهائية للقديس؛ هي أن يحتفظ لشعب أوروبا بتعليم المسيحية، وعبر هذه الإرادة نجد أنفسنا وقد تلاقى الطريقان وتطابقا بإحكام: طريق الدياسبورا اليهودية وطريق الفكر المسيحي.
لكن هذا الاتجاه في ظاهره يبدو غير مفهوم، ولذا يطرح سؤالا هاما يتعلق بالرسالة الكهنوتية (ووصية السيد المسيح: هلموا تلمذوا الأمم). فلماذا لم يشأ القديس بولس إذن أن يدعو ويتلمذ الأمم في الشرق؟ ليس لهذا السؤال تفسير تاريخي سوى تفسير واحد لا علاقة له بتكون المسيحية (sa genèse) بل بالمحطة التاريخية لنهاية هذا المسار الذي اتجه إليه القديس بولس، وأنهى أن تكون أوربا هي مهد رسالته الكهنوتية والتي عبرها أصبحت روما مسيحية.
وإذا اعتبرنا العصر الحديثه نتيجة سببية لنشوء أوربا، أو هي مهد نشأته، فإن أوربا في ولادة هذا العصر، لم تكن كما وجدها اليهود قبل
ألفي عام، حين كانت في حالة تخلق ونشوء أولي، بل كانت في كامل
حضورها كما هي اليوم.
وال ذي شذ عن النظر الدقيق هو أن أوروبا اليوم في حيويتها الثقافية والسياسية والمادية تدور حول مركزية اليهود.
فهناك حركة مفصلية أساسية تشكل رافعة دافعة ترسل أو تمسك بالحركة لتسير كما ينبغي وبالاتجاه الذي يجب، فتأثير اليهود في الحضارة
الأوروبية هو الأكثر بروزا في عملها وسماتها: إنهم عقلها وروحها. ففي البلاد الأوروبية نرى الأسماء الأكثر بروزا هي لليهود في ميادين:
البنوك والتجارة والصناعة والمسرح والصحافة والأدب. فسائر النجوم الوطنية البارزة للبلاد هم - بما لا يقبل الجدل - إما
يهود أو متحدرون من أصل يهودي.
فمن الفرنسي الذي لديه قليل من الثقافة لا يعرف برغسون المفكر الأكبر لفرنسا المعاصرة؟ أو أندريه موروا الكاتب الأبرز؟ أو سارا برنار الأكثر تراجيدية؟ أو مدام كوري التي كسفت شهرة عقلها العملي شهرة
زوجها الذي لم يكن يهوديا؟
ثم في نطاق المال؛ فإن روتشيلد (ذلك المحسن الأكبر) هو المرجع وكذلك شنيدر، وسيتروين التي هي من المؤسسات الصناعية الأكبر، وكذلك رينيه ماير أو (Moch) الذين هم من الوزراء الأكثر شهرة في فرنسا في العصر الحاضر، وكذلك ستافسكي المحتال الأكبر صاحب الفضيحة المالية التي وضعت مالية فرنسا في الحضيض، وأسقطت الحكومة، ومع ذلك فما نشير إليه ليس سوى قائمة مختصرة.
هكذا نرى أمامنا قائمة من القيادات اليهودية في مختلف المواقع والميادين لها دلالتها ومعناها، وأنا هنا أشير إلى المشهورين، وأتجاوز الحديث عن الآلاف التي تترافق بالضرورة مع الانتشار المتسارع لليهود، ويأتي في المقدمة الإنتاج السينمائي والصحف الكبرى (Le Monde -France presse-Combat) والمؤسسون كلهم يهود.
هذا الاستعراض الواسع يبدو للنظر غريبا في طبيعته في بلد ليس يهوديا، لكن شيئا يبدو لي أكثر غرابة؛ هو أن الفرنسي من سائر الطبقات يجد ذلك شيئا طبيعيا له دلالة الاعتراف بتقدم اليهود في بلده، بل أكثر من ذلك فالفرنسي مستعد للموت بدافع الشعور الوطني، لترسيخ هذا التقدم إذا ما داهمه خطر كاحتلال الألمان لفرنسا من عام 1940 - 1944 مثلا.
هذه النقطة التي أشير إليها هنا كدراسة خارج حياة فرنسي هي هامة على الخصوص من وجهة نظر داخلية، أي كحالة نفسية تخص الفرنسي في غرابتها.
وهذه الحالة تبدو أحيانا حالة استبطان، أو هي حالة انفعال خاص كتلك التي عبر عنها (J.Maritain) هذا الكاتب الكاثوليكي الكبير، إذ تحدث بعبارات عالية عظيمة الدلالة أمام شاب فرنسي متهم بالعداء
للسامية، فصرخ أمامه هذا الكاتب الكبير: لقد أمضيت ثلث عمري على أقدام يهودي مضرج القلب (يقصد السيد المسيح).
هذه الصرخة تعري الواقع، ونرى كيف يقضم اليهودي الروح الفرنسية، لكن الانتشار اليهودي ليس خاصا بفرنسا؛ فالانتشار هنا يعبر عن حالة الأشياء التي تسمى الحضارة الغربية.
ففي إنكلترا يبدو الانتشار اليهودي أكثر دلالة في الماسونية، ورئيسها الملك يطلق عليه اسم غامض الدلالة (الفارس القدوس). وهنا يبدو الجذر العبري للكلمة وفيه كل خفايا اليهود في الحياة الإنكليزية.
ثم إن نائب الملك في الهند ما بين عام 1920 - 1925 كان هو نفسه يهوديا يتمتع بلقب لورد ريدينغ (Lord Reading) ، ثم هناك من كبار
وزراء الإمبراطورية البريطانية وهو بكل حال ليس دزرائيلي ذلك اليهودي
الذي وقف في مجلس العموم البريطاني وهو يمسك بيده المصحف ويقول: (لن يكون سلام في العالم ما دام هذا الكتاب موجودا).
وكما هو الأمر إذن في فرنسا فكذلك في بريطانيا؛ كبار القادة والماليين والصناعيين والأكبر اختصاصا في الطب، ثم إن الخياط
الأفضل في بريطانيا هو بصورة طبيعية يهودي.