مقدمة كتاب بحر المذهب للروياني

مقدمة كتاب بحر المذهب للروياني

الأصل من فضل العلم والعلماء قوله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَقُل رَّبَ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط} [آل عمران: 18].
وروى أبو الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سلك طريقًا يطلب به علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، [2 أ/ 1] وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافرِ ". ومعنى قوله: (لتضع أجنحتها) يعني: بالتواضع والخضوع تعظيمًا لحقه وتوقيرًا.
وقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 15]، وقوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَلذَُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 14]، وقيل: وضع الجناح هنا معناه الكف عن الطيران للنزول عنده. وقيل: معناه بسط الجناح وفرشه لطالب العلم لتحمله عليه فيبلغه حيث يقصده من البقاع في طلبه، ومعناه المعرفة وتيسير السعي له في طلب العلم. وأيضًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء". وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم".
وقال فضيل بن عياض رحمه الله في معناه: "كل عمل كان عليك فرضًا فطلب علمه عليه فرض، وما لم يكن العمل به عليك فرضًا فليس طلب علمه عليك بواجب".
وقال صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا العلم ولو في الصين". وأيضًا روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة". وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين عليه فرضه.
وأيضًا روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء ورسوله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في حال [2 ب/ 1] الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ إلى فيه، فقال: "أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق".
فإن قيل: روى المطلب بن عبد الله بن حنطب، أن زيد بن ثابت دخل على معاوية فسأله عن حديث، فأخبره، فأمر إنسانًا فكتبه، فقال له زيد بن ثابت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن لا نكتب شيئًا من حديثه فمحاه. قيل: يحتمل أن يكون النهي متقدمًا وآخر الأمرين الإباحة. وقيل: إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به فيشتبه على القارئ وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالتبليغ، وقال: "ليبلغ الشاهد الغائب".
وروى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله أمر أسمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه ليس بفقيه". فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه بالكتابة يتعذر التبليغ فلا يؤمن من ذهاب العلم، لأن النسيان من طبع أكثر البشر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجل شكا إليه سوء الحفظ: "استعن بيمينك" وقوله: (نضر الله): معناه: الدعاء بالنضاره وهي النعمة والبهجة، ويقال: نضر الله بالتخفيف والتثقيل، وأجودهما [3 أ/ 1] التخفيف، وفي هذا الخبر بيان أن الفقه هو الاستنباط، والاستدراك لمعاني الكلام، وفي ضمنه وجوب
النفقة والحث على استنباط معاني الحديث.
فإذا تقرر هذا، فاعلم أن العلم كبير والعمر قصير، فالأولى لمن طلب العلم بعد التوحيد أن يشتغل بالأحسن منه والأولى، وهو التفقه في الدين، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد".

ثم اعلم أن أفضل الفقهاء فقهًا وأحسنهم ترتيبًا ونظمًا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -رضي الله عنه حكي عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قبل حُلمي، فقال له: "يا غلام" قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: "من أنت"؟ قلت: من رهطك يا رسول الله، فقال: "ادنُ مني"، فدنوت فأخذ شيئًا من ريقه ففتحت فمي، فأمره على لساني وفمي وشفتي، فما أذكر أني لحنت بعد ذلك في حديث ولا شعر".
وحكي عن تلميذه أبي إبراهيم المزني أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عن الشافعي -رحمه الله - فقال: من أراد محبتي وسنتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعي، فإنه قال: "الأئمة من قريش".
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشًا ولا تقدموها، وتعلموا [3 ب/ 1] منها ولا تعلموها". قال المزني: أي لا تفاخروها.
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "من رأى رجلًا من قريش أفضل ممن رأى رجلين من غيره".
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا قريشًا، فإن عالمها يملأ طبق الأرض علمًا". وهذا متعين في الشافعي رحمه الله.
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم في هذا: "البيان تبع لقريشٍ فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم". ولم نجد في الأئمة المشهورين قرشيًا سارت منه الكتب في الأقطار، واستظهرها الكبار وأدوجها إلى الصغار غير الشافعي رضي الله عنه، فلهذا اتبعناه وسلكنا مذهبه، وأيضًا فإنه جمع من العلم ما لم يجمعه غيره من الأئمة، فإن مالكًا والأوزاعي والثوري وغيرهم لهم قدم في الآثار ومعناهم ضعيف. وأبو حنيفة والعراقيون لهم قدم في المعاني وأثرهم ضعيف. والشافعي جمع الآثار والمعاني، فإنه لما قدم العراق سمى ناصر السنة والحديث، ولا يقول بتخصيص العلة لقوة معانيه بخلاف غيره، وصنف في الأصول وبني عليها الفروع فتكون أحوط، وانفرد لمعرفة اللغة وأيام العرب، فإنه عربي الدار واللسان. وحكي عن بعضهم أنه قال: تلقى شيئًا من غرائب كلام الشافعي -رحمه الله - على الرياشي شيء قدر ما كف بصره، فقال: هذا من كلام مَنْ؟ فقلنا: هذا من كلام
الشافعي فقال: نعم، سمعت الأصمعي يقول: قرأت ديوان الهذليين على فتى من قريش، يقال [4 أ/ 1] له: محمد بن إدريس الشافعي. وأيضًا الشافعي -رحمه الله -أكثر احتياطًا في الطهارات، وشرائط العبادات، والأنكحة، والبياعات تمسكًا بالسنة، وذلك معروف في بيان مذهبه فكان أولى من غيره.
وقال الربيع: سئل الشافعي -رحمه الله -عن مسألة، فقال: يروى فيها كذا وكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: يا أبا عبد الله، تقول به؟ فرأيت الشافعي أرعد وانتفض، فقال: يا هذا أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم يقل به نعم على السمع والبصر، نعم على السمع والبصر.
وقال أحمد: كان الشافعي إذا ثبت عنه الخبر قلده.
وأيضًا عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، فهو يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
والمطلب هو أخو هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وله قربى برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل جداته، فإن أم [4 ب/ 1] عبد يزيد هي الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف وأم السائب بن عبيد الشفاء بنت أرقم بن نضلة بن هاشم بن عبد مناف، وأمها خليدة بنت أسد بن هاشم، وكان لجده الأعلى وهو المطلب فضيلة بتربية عبد المطلب، وبذلك سمي عبد المطلب، وكان بنو المطلب مع بني هاشم متناصرين، فإن بقية عبد مناف وهم بنو عبد شمس وبنو نوفل انفردوا
عنهم وأدخل النبي صلى الله عليه وسلم بني المطلب مع بني هاشم في سهم ذوي القربى دون غيرهم. وقال: "نحن وبنو المطلب هكذا -وشبك بين أصابعه -إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام". وكان السائب جد الشافعي -رحمه الله -قد أسر يوم بدر، وكان صاحب راية بني هاشم ففدى نفسه ثم أسلم. وكان ابنه شافع لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع رئيل مراهق، وإليه نسب الشافعي -رحمه الله -وكانت أم الشافعي أزدية.
واعلم أنه ولد بغزة قرية من قرى الشام قريبة من بيت المقدس، فمكث فيها سنتين ثم حمل إلى مكة فنشأ بها وتعلم العلم، ثم دخل العراق سنة سبع وسبعين ومائة، وأقام بها سنتين، وصنف كتابه القديم وسماء "كتاب الحجة"، ثم عاد فأقام بها مدة، ثم دخل بغداد فأقام هناك أشهرًا، ولم يصنف شيئًا، ثم خرج إلى مصر فأقام بها إلى أن تغمده الله برحمته، وصنف الكتب الجديدة هناك، ودفن بمصر، وكان له ابنان، اسم كل [5 أ/ 1] واحد منهما محمد، مات أحدهما بمصر سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ومات الآخر بالجزيرة وولي القضاء بها وكان مسنًا، يروي عن سفيان بن عينية، وكان مولده سنة خمسين ومائة، ومات ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة، وقد صلى المغرب ودفن يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين.
قال الربيع: انصرفنا من جنازة الشافعي، فرأينا هلال شعبان، وكان عمره أربعًا وخمسين سنة، وقيل: مات يوم الجمعة قبل الصلاة، ودفن في ذلك اليوم بعد العصر، والأول أصح.
فرواة كتبة القديمة أحمد بن حنبل، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني والحسين الكرابيسي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي. قال الزعفراني: ما ذهبت إلى الشافعي مجلسًا قط إلا وجدت أحمد بن حنبل فيه.
ورواة كتبه الجديدة أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيي المزني توفي بمصر ودفن يوم الخميس سلخ ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائتين. وأبو محمد الربيع بن سليمان المرادي صاحب الأم. وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي. وأبو حفص حرملة بن يحيى. ويونس بن عبد الأعلى. والربيع بن سليمان الجيزي. وعبد الله بن الزبير الحميدي المكي. ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكيم المصري، ثم أحتسب المزني
أفقه تلامذة الشافعي وأزهدهم وأحفظهم لكتبه وعلمه، بأن اختصر من علمه كتابًا سماه: "الجامع الكبير"، ثم اختصر منه "الجامع المختصر"، الذي [5 ب/ 1] يتداوله أصحاب الشافعي ويتدارسونه، ولم يترك شيئًا من أصول مسائل الفقه وفروعها إلا وقد أتى عليه بحسن الاختصار والنظم، وربما يأتي في خطين أو ثلاثة ما أتى به الشافعي في أوراق، ومكث في جمع هذا الكتاب نيفًا وعشرين سنة، وما اعترض فيه باعتراض ولا اختار قولًا على غيره إلا بعد ما صلى ركعتين واستخار الله تعالى فيه.