مقدمة كتاب التهذيب في فقه الإمام الشافعي

مقدمة كتاب التهذيب في فقه الإمام الشافعي

الحمد لله رب العالمين، كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، والصلاة على نبيه وصفيه، محمد سيد المرسلين وآله.
قال الشيخ الإمام إمام الأئمة، ومحيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود رضي الله عنه، وعن جماعة المسلمين أجمعين:
أما بعد، فإن أشرف الأمور قدراً، وأعظمها أجراً- تعليم العلم.
وقد من الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم- بالعلم فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
وأظهر فضل آدم - صلى الله عليه وسلم - على الملائكة بالعلم فقال: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 31].
وروي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع".
وروي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
وروي عن أبي أمامة الباهلي قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- رجلان: أحدهما عابدٌ، والآخر عالمٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أذناكم" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على مُعلم الناس الخير".
وأولى العلم بالتعلم بعد معرفة الله - تعالى- بالوحدانية والصفات والإيمان بملائكته وكتبه ورسله- علم الفقه ومعرفة أحكام الشرع؛ لأن الله تعالى خلق الخلق للعبادة، فقال جل ذكره: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وأرسل الرسل إلى العباد، وأنزل معهم الكتاب ليبينوا لهم الشرائع والأحكام، قال الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
وقال جل ذكره: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105].
وقال جل ذكره: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ... الآية} [المائدة: 15، 16].

قال جل ذكره: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ....} [آل عمران: 79].
قال ابن عباس: "حكماء وفقهاء".
وروي عن ابن عباسٍ، ومعاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقيهٌ واحدٌ أشد على الشيطان من ألف عابد".
وقال سفيان الثوري رحمة الله عليه: "ليس عملاً يعمل من الفرائض أفضل من طلب العلم".
وقال الشافعي رضي الله عنه: "طلب العلم أفضلُ من صلاة النافلة" وهو كما
قال؛ لأن نفع صلاته لا تتعدى عنه، ونفع علمه يتعدى إلى كافة الناس، ولأن طلب العلم فريضة، ولأن القيام بأحكام الشرع لا يمكن إلا بمعرفة علمها، وإن النافلة لا تعادل الفريضة.
ثم هو ينقسم إلى: فرض عينٍ، وفرض كفايةٍ.
ففرض العين هو أنه يجب على كل مكلفٍ معرفةُ علم ما هو مأمورٌ به من العبادات من علم الطهارة، والصلاة، والصوم، وعلم الزكاة إن كان له مالٌ وعلم الحج إن وجب عليه؛ يجب أن يعرف أركانها وسننها، وما يوجبها وما يبطلها، وهو المراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضةٌ على كل مسلم".

وفرض الكفاية: وهو أن يتعلم ما يبلغ به رتبة الاجتهاد، ومحل الفتوى، والقضاء، ويخرج من عداد المقلدين، فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام من كل ناحية واحدٌ أو اثنان، أو عددٌ تقع بهم الكفاية بتعلمه سقط الفرض عن الباقين؛ لأنا لو فرضنا على الكافة الاشتغال به كفرض العين أدى ذلك إلى انقطاع معاشهم، فإذا قعد الكل عن تعلمه عصوا جميعاً؛ بما فيه من تعطيل أحكام الشرع كغسل الميت، والصلاة عليه ودفنه، ورد السلام فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين الفرضُ قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ... الآية} [التوبة: 122].
ولا يبلغ الرجل رُتبة الاجتهاد حتى يعرف خمسة أنواع من العلم: يعرف علم كتاب الله عز وجل، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقاويل السلف، ولسان العرب، ووجوه القياس.
يعرف من كتاب الله عز وجل ناسخه ومنسوخه، وخاصه وعامه، ومجمله
ومفصله، وغير ذلك من الآيات التي جاءت في الأحكام.
ويعرف من السنن التي جاءت في الأحكام جميع ذلك، ويعرف صحيحها وسقيمها، ومسانيدها، ومراسيلها، ويعرف ترتيب الكتاب على السنة، والسنة على الكتاب.
ويعرف أقاويل السلف في الأحكام من الصحابة فمن بعدهم إلى عصر
إجماعهم واختلافهم، فإن اتباع الإجماع فرضٌ لامتناع الاجتهاد فيه، والاجتهادُ في موضع الاختلاف مساغٌ بشرط ألا يقول قولاً تخالف فيه جماعتهم.
ويعرف علم اللغة ولسان العرب؛ لأن الخطاب ورد بلسانهم، فمن لم يعرف لغتهم لا يعرف مراد الشرع.
ويعرف وجوه القياس من الجَلِي والخفي، وهو كيفية رد الفرع الذي لا يجد فيه نصاً إلى نظائره من الأصول التي وردت في الكتاب والسنة، وقد سبق مني كتاب في "معالم
التنزيل"، وكتاب في "شرح السنة"، يتضمن كثيراً من علوم الحديث، وفوائد الأخبار، وبيان الأحكام، وأقاويل العلماء، لا يستغني عن معرفتها المرجوع إليه في الفتاوى والأحكام، وهذا كتاب أنشأته بعون الله - جل ذكره- في "تهذيب مذهب الإمام المطلبي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي"، تغمده الله برضوانه سألني جماعةٌ من المرتحلين إلي من الأقطار بعدما علقوا الطريقة تهذيباً؛ ليكون لهم عوناً على الحفظ والتدريس، فرأيت إسعافهم بمطلوبهم واجباً امتثالاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فيما يروى عن أبي هارون العبدي قال: كنا نأتي أبا سعيد فيقول: مرحباً بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الناس لكم تبعاً، وغن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإن أتوكم فاستوصوا بهم خيراً".