التعريف بالحافظ بن عبد البر صاحب كتاب اختلاف أقوال مالك وأصحابه

التعريف بالحافظ بن عبد البر صاحب كتاب اختلاف أقوال مالك وأصحابه

الحافظ يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، أبو عمر النمري القرطبي الأندلسي المالكي.
ولد الحافظ ابن عبد البر يوم الجمعة لخمس بقين من ربيع الثاني سنة 368 بمدينة قرطبة، وتوفي رحمه الله يوم الجمعة في آخر يوم من ربيع الثاني سنة 463 بمدينة شاطبة، شرق بلاد الأندلس (¬1).
ويحكي ابن فرحون في الديباج المذهب، أن ابن عبد البر رثى نفسه قبل وفاته بأبيات شعر، قال فيها:
تذكرت من يبكي علي مداوما ... فلم ألف إلا العلم بالدين والخبر
علوم كتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله في صحة الأثر
وعلم الألى قرن فقرن وفهم ما ... له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر (¬2).
أما عن علو مكانته وقيمته بين أبناء قومه، ومنزلته فيقول في حقه الذهبي في سير أعلام النبلاء:
((قلت: كان إماما دينيا، ثقة، متقنا، علامة، متبحرا، صاحب سنة واتباع، وكان أولا أثريا ظاهريا فيما قيل، ثم تحول مالكيا مع ميل بين إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا ينكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمة المجتهدين، ومن نظر في مصنفاته بان له منزلته من سعة العلم وقوة الفهم، وسيلان الذهن، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله (ص)، ولكن إذا أخطأ إمام في اجتهاده لا ينبغي لنا أن ننسى محاسنه، ونغطي معارفه، بل نستغفر له، ونعتذر عنه)) (¬1). وقال عنه الحميدي في جذوة المقتبس:
((أبو عمر فقيه حافظ مكثر، عالم بالقراءات وبالخلاف في الفقه، وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع، كثير الشيوخ، على أنه لم يخرج من الأندلس، ولكنه سمع من أكابر أهل الحديث بقرطبة وغيرها، ومن الغرباء القادمين إليها)) (¬2). نسبة الكتاب إلى ابن عبد البر:
لا اختلاف في نسبة كتاب: اختلاف أقوال مالك وأصحابه لابن عبد البر القرطبي؛ فقد أجمعب المصادر التي ترجمت له على نسبة هذا الكتاب إليه، كما ذكره وأحال عليه هو نفسه، في بعض مؤلفاته. يقول القاضي عياض في ترتيب المدارك أثناء حديثه عن مؤئفات ابن عبد البر: ((... وكتاب الاختلاف في أقوال مالك وأصحابه، عشرون كتابا ...)) (¬3).
ويقول ابن عبد البر نفسه في كتابه الاستذكار: ((وقد ذكرنا اختلاف قول مالك وأصحابه في هذه المسألة في كتاب جمعناه في اختلافهم)) (¬4).
قيمة الكتاب العلمية:
تعود قيمة هذا الكتاب، إلى الفن الذي ينتمي إليه، وهو الخلاف الفقهي؛ وقد ذهب أغلب الفقهاء إلى أن المراد بالخلاف الفقهي: تغاير أحكام الفقهاء في مسائل الفروع.

وواضح من هذا التعريف، أن الخلاف ليوصف بالفقهي، ينبغي أن يكون واقعا من أهله وهم الفقهاء، أهل النظر والكفاءة العلمية، لا غيرهم. وفي محله، وهو أحكام مسائل الفروع، كأوصاف التصرفات الشرعية العملية من طهارة، وصلاة، وزكاة، وغيرها، لا أحكام مسائل الأصول كالاعتقادات من: إيمان بالله وملائكته ورسله، وما إلى ذلك. ثم إن الخلاف في الفروع أمر مشروع، لا مسوغ لإنكاره ولا موجب للحذر منه إن وقع من أهله وفي محله وشروطه (¬1).
وعلى العموم، فما كان سبيل العلم به هو الاجتهاد، فالاختلاف فيه ممكن ومقبول؛ ذلك لأنه يقع في الفروع، لا في الأصول. وفي الجزئيات، لا في الكليات. وفي الظنيات، لا في القطعيات. كما أنه ناشئ عن أسباب موضوعية دعت الضرورة إليها، وهي ترجح في جملتها إلى اختلاف المدارك والعقول والأفهام، إضافة إلى احتمالية النصوص الشرعية، في ثبوتها ودلالتها على الأحكام.
ولأهمية الخلاف - أو علم الخلاف الشرعي - قال يحيى بن سلام (ت 200 هـ): ((لا ينبغي لمن لا يعلم الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعرف الأقاويل أن يقول: هذا أحب إلي)) (¬2).
والكتاب الذي بين أيدينا، هو كتابة في الموضوع من صميم المتناول، كتاب ينتمي إلى علم الخلاف والتحرر العقلي وإطلاق الفكر للاجتهاد، كما أنه في الفروع الفقهية، لا الكليات. وتزداد قيمته في أنه يبرز الخلاف بين الإمام مالك بن أنس وتلامذته.

والحافظ ابن عبد البر مسبوق بالتأليف في هذا النوع من الفن؛ فقد ألف أبو عبيد الجبيري (ت 378 هـ) كتابا سماه: التوسط بين مالك وابن القاسم في المسائل التي اختلفا فيها من مسائل المدونة (¬1). كما ألف يحيى بن إسحاق بن يحيى الليثي الأندلسي (ت 303 هـ) الكتب المبسوطة في اختلاف أصحاب مالك وأقواله (¬2)؛ وهذا الأخير يعتبر من الأصول العلمية المفقودة المعتمدة عند ابن عبد البر في مؤلفه هذا (¬3). وألف يحيى بن عمر الكناني، وهو من كبار علماء القيروان في القرن الثالث الهجرى، كتابا في اختلاف ابن القاسم وأشهب (¬4). بل، امتد هذا الاتجاه فى التأليف إلى أول عهد المتأخرين، فألف الخشني كتاب: الإتفاق والاختلاف في مذهب مالك، وكتاب: رأي مالك الذي خالفه فيه أصحابه (¬5).
وإذا كان ابن عبد البر قد فاته شرف السبق قي التأليف في هذا الباب، فإنه حاز شرف المشاركة والاستفادة والانتقاء من السابقين، مع حصره لدائرة الاختلاف الفقهي بين إمام المذهب وتلامذته. ولهذه الأسباب جميعا، وإنقاذا لما تبقى من هذا الكتاب التراثي الأندلسى النفيس، قررنا تحقيق الكتاب وإخراجه إلى النور ليسلك طريقه إلى الباحثين في مجال الخلاف الفقهي - النازل والعالي - بصفة خاصة، وإلى المهنمين بهذا التراث العظيم بصفة عامة.
وإن الفضل في التشجيع على إنقاذ ما تبقى من هذا الكتاب، يعود بالأساس إلى الزميل والصديق المحترم: ميكلوش موراني الأستاذ بجامعة بون/ ألمانيا والخبير في شؤون التراث المالكي، الذي اطلع عل الكتاب وأعجب به ثم قام بتصويره من الخزانة العامة بالرباط سنة 1998 وزودني بنسخة منه، واقترح علي في نفس الوقت، أن نعمل معا على تحقيقه ونشره في أقرب وقت ممكن. فاستحسنت الاقتراح؛ وقد اجتهدنا خلال هذه الفترة في إخراج الكتاب حتى جاء في صورة قريبة جدا من أصله مع ترميم ما سقط منه. وصف النسخة المعتمدة:
اعتمدنا في تحقيقنا لكتاب اختلاف أقوال مالك وأصحابه لابن عبد البر على نسخة فريدة ووحيدة، وهي محفوظة بالخزانة العامة بالرباط، المملكة المغربية، تحمل رقم 3369 (المكتبة الكتانية).
وتشتمل نسختنا هذه على كتابين فقط؛ الأول: كتاب الوضوء، وهو تام؛ والثاني: كتاب الصلاة، وهو مبتور الأخير؛ ينتهي عند معالجة مسألة: السهو في الصلاة.
ويبدو من بعض الوجوه أن النسخة الموجودة بين أيدينا كانت تشتمل على كتب أخرى غير ما ذكر؛ من ذلك ما سجل على أول ورقة الكتاب (ق 1 أ) أسفل عنوانه، وفيه:
السفر الأول من اختلاف أقوال مالك وأصحابه، تأليف الفقيه الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري رضي الله عنه.
وفيه الوضوء والصلاة والجنائز والصيام والاعتكاف والصيد والذبائح والجهاد والحج والنذور (¬1).