الكتاب : إرشاد السالك إلى حل ألفية ابن مالك

في تصنيف : النحو والصرف | عدد الصفحات : 1063

بحث في كتاب : إرشاد السالك إلى حل ألفية ابن مالك

والسنة، ولكنه كان يسلك مسلكاً وسطاً ينشد الدليل، ولا يثرب على العلماء ولم يمنعه مسلكه هذا من التفقه في المذهب الحنبلي وبيان أصوله، وتحرير فروعه مع مخالفته لما ذهب إليه الإمام أحمد في عشرات المسائل، وفي ذلك يقول: "وكثيراً ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده، فنحكي المذهب الراجح ونرجحه، ونقول هذا هو الصواب وهو أولى أن يؤخذ به، وبالله التوفيق".
أقول: إن إبراهيم ابن القيم، لم يذكر في مقدمته الموجزة سوى السبب الذي بعثه إلى شرح الألفية، وأما ما ذكرته من مذهبه فإنه يظهر لكل من وقف على شرحه وتدبره. وسأذكر -إن شاء الله- في نقاط آتية ما يدل على ما ذكرت من موافقته للبصريين في كثير من المسائل النحوية لا لذات المهب وإنما لكون ذلك هو ما ترجح لديه، ومن موافقته للكوفيين في بعض المسائل، ومن مخالفته لكلا الفريقين وأَخذِه بقول بعض النحاة، أو القول باجتهاده -في غالب ظني- حيث لم أجده لغيره.

المبحث الخامس: ابن القيم والمذاهب النحوية
تقدم أن إبراهيم ابن القيم لم يكن أسير مذهب معين، وإنما كان ينتظر في الآراء المختلفة وينتقي منها ما كان أسعد بالدليل، ويتضح ذلك من تفننه في الاختيار، فبينما تجده يختار في كثير من القضايا النحوية المذهب البصري حتى إنك لتكاد أن تحكم عليه بأنه بصري النزعة، تجده يختار في مسائل متعددة المذهب
الصفحة : 22


الكوفي ويرجحه، وقد يختار مذهباً مخالفاً لكلا المذهبين وينصره، كما سيأتي:
أ- متابعة المذهب البصري:
لقد تتبعت ابن القيم وهو يستعرض المسائل النحوية، فوجدته وافق البصريين فيما يزيد على أربعين مسألة، وهذه نماذج منها:
1 - تابع البصريين في القول ببناء فعل الأمر، فقال: "وأما الأمر فمبني على ما يجزم به المضارع"، والكوفيون يقولون بإعرابه.
2 - تابع جمهورهم في كون متعلق الظرف أو الجار والمجرور فعلاً، فقال: "وكل منهما متعلق بفعل، تقديره: استقر، أو نحوه" والأخفش على أن متعلقهما مفرد.
3 - تابع البصريين في جواز تقديم الخبر ما لم يمنع مانع، فقال: "الأصل تقديم المبتدأ وتأخير الخبر، والعكس جائز ما لم يمنع منه مانع من الموانع الآتية: ... ".
4 - تابع البصريين في أن "كان وأخواتها" هن الرافعات للمبتدأ على أنه اسم لهن الناصبات للخبر على أنه خبر لهن، فقال: "كان وأخواتها هي العاملة في المبتدأ والخبر، فترفع المبتدأ لشبهه بالفاعل، ويسمى اسمها، وتنصب الخبر لشبهه بالمفعول ويسمى خبرها". والكوفيون على أن الاسم بعد هذه الأفعال مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولهن، وأن الاسم المنصوب بعدها إنما نصب على الحال.
الصفحة : 23


5 - تابع البصريين في كون الخبر بعد "إن وأخواتها" مرفوعاً بهن، فقال: "عملت هذه الأدوات لاختصاصها بالأسماء، وعلمن الرفع والنصب لشبهها بالأفعال الناقصة ... " والكوفيون على أن الخبر بعد هذه الأدوات مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولهن.
6 - تابعهم في أن أصل المشتقات المصدر، فقال: "والمختار مذهب البصريين أنه أصل للفعل والوصف، وكل منهما مشتق منه".
7 - تابعهم في كون التمييز نكرة، ولا يكون معرفة، فقال: " الثاني: كونه نكرة، فلا تمييز بمعرفة". والكوفيون يجيزون كونه معرفة.
8 - تابعهم فيما قالوا بإعماله من صيغ المبالغة وهو ثلاث صيغ، ووافق سيبويه في إعمال الباقي وهو صيغتان.
9 - تابع جمهورهم في كون "ما" نكرة تامة محلها الرفع على الابتداء.
فقال: "ما" نكرة تامة محلها رفع بالابتداء، وما بعدها في محل الخبر".
وذهب الأخفش إلى أنها موصولة، وما بعدها لا محل له من الإعراب صلة لها، ونقل عن الكوفيين أنها استفهامية.
10 - تابع البصريين ومن وافقهم من الكوفيين في القول بفعلية " أَفعَل" التعجب، فقال: "و" أفعل "فِعلٌ للزوم نون الوقاية إياه قبل ياء المتكلم"
الصفحة : 24


والكوفيون على أنه اسم.
11 - تابعهم في أنه لا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا بعد الفصل بضمير منفصل، فقال: "فأما ضمير الرفع المتصل أو المستتر فلا يجوز العطف عليه إلا بعد الفصل بالضمير المنفصل المؤكد للمعطوف عليه".
والكوفيون لا يرون وجوب ذلك.
12 - جرى على اصطلاحهم في تسمية البدل بدلاً، وأما الكوفيون فيسمونه الترجمة والتبيين.
13 - تابع البصريين والكسائي في القول بفعلية "نِعْم وبئس". فقال: "والدليل على فعلية" "نِعْم" و "بئس" دخول تاء التأنيث عليهما، ولا دليل للكوفيين على اسميتهما باتصالهما بحرف الجر ... ".
14 - صحح مذهبهم في أن: "فُلُ" و "فُلَة" كناية من "رجل" و "امرأة" على الأصح" والكوفيون يرون أنهما مرخماً: "فلان" و "فلانة".
ب - متابعته المذهب الكوفي:
ولقد تتبعته وهو يستعرض المسائل النحوية، فوجدته قد وافق الكوفيين فيما يزيد على عشر مسائل، أشرت إليها في مواضعها، وهو في معظمها متابع لابن مالك، وهذه نماذج من تلك المسائل:
1 - تابع الكوفيين في تعليلهم دخول الباء على خبر "ليس" و "ما" وأنه لتأكيد
الصفحة : 25


النفي. فقال: " تدخل الباء على الخبر بعد "ما" و "ليس" لتأكيد النفي".
والبصريون على أن هذا الباء مأتي به لدفع توهم أن يكون الكلام موجباً.
2 - تابعهم في تجويزهم إعمال اسم المصدر غير الجاري على فعله قياساً، فقال: "واسم المصدر يطلق على ثلاثة أشياء: "أحدهما: ما لم يجر على فعله قياساً ... والثاني: ... والثالث ... وأما الأول فالكوفيون يجيزون إعماله، وهو الحق ... ".
3 - تابعهم في تجويزهم توكيد النكرة إذا كان ذلك يفيد، بأن كانت النكرة متبعضة أو محدودة. فقال: "لا تؤكد النكرة عند عدم الفائدة اتفاقاً، ومع حصول الفائدة لكون المؤكد محدودا ... فالتحقيق جوازه، كما ذهب إليه الكوفيون، لورود السماع بذلك".
4 - تابع الكوفيين في القول بجواز ندب الموصول إذا كانت صلته مشهورة فقال: "الموصول من قسم المبهم فلا يندب إلا إذا كانت صلته مشهورة نحو: "ومن حفر بئر زمزماه". والبصريون لا يرون جواز ذلك، وما جاء منه محمول عندهم على الشذوذ".
ج- مخالفته الفريقين:
خالف ابن القيم كلا الفريقين: البصري والكوفي في بعض المسائل
الصفحة : 26