الفهرس
وإذا كان الأمر على هذا وجب إطراحها جملة، وألا تنزل منزلة الخبر الواحد ولا غيره. وإنما يعتد بخبر الواحد إذا ورد مفردًا لا في حكم يقابله إجماع، أو بغير قراءة ثابتة في المصحف المجمع عليه؛ فسقط ما قالوه.
قالوا: والوجه الآخر أنه تعالى قال: {وأتموا الحج والعمرة لله}، واسم الإتمام ينطلق على الابتداء بالشيء وعلى إتمام ما دخل فيه.
فأما دخوله للبناء على ما دخل فيه فإنه بين مستغن عن إقامة دليل عليه.
وأما ما وردوه في الابتداء فبدلالة قوله عز وجل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قيل: فأتى بهن.
وقول على بن أبى طالب -رضي الله عنه -: إتمامهما: أن تحرم من دويرة أهلك.
وإذا كان كذلك كان الأمر عامًا في الابتداء والبناء.
قالوا: على أنه لو ثبت أن الحقيقة في الإتمام البناء لم يمتنع أن يراد بهذه الدلالة الابتداء؛ بدليل وهو ما روى عن عمر وعلى -رضي الله عنهما -أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك.
والصحابي إذا فسر شيئًا من القرآن لم يخل أن يكون فسره من طريق اللغة أو التوقف، فإن كان من حيث اللغة فقد ثبت ما قلناه.
وإن لم يكن من اللغة كان من التوفيق فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: ابتدؤوا
الصفحة : 826
الحج والعمرة؛ وذلك يقتضى وجوبهما.
فالجواب أن حقيقة الإتمام في اللغة هو البناء على ما فعل بعضه.
فإذا استعمل بمعنى الابتداء كان ذلك مجازًا واتساعًا، والمجاز يحتاج إلى دليل، وما أوردوه من قول الصحابة رضي الله عنهم لا يوجب كونه حقيقة فيه، لأنه إذا ثبت كونه حقيقة فيما ذكرناه امتنع كونه حقيقة فيما ذكروه.
على أنا لو سلمنا أنه حقيقة لكان الظاهر هو البناء. فأما الابتداء فلا يعقل من ظاهره، وقد صاروا إلى أنه معقول بالدليل، وهو ما روى عن الصحابة رضي الله عنهم. وليس ذلك بدليل؛ لأنه ليس كلامًا يقوله الصحابي في تفسير القرآن لا يكون إلا لغة وتوفيقًا، بل يقوله لأنه يرى الحكم بالقراءتين، والدليل على غير ذلك.
وقد روى عن بعضهم أن ذلك في البناء دون الابتداء، وقاله مجاهد وغيره.
والوجه الآخر: أنا لو سلمنا أن الإتمام هو الإتمام هو البناء لو يمنع ما قلناه؛ لأن ذلك لا يوصل إليه إلا بالابتداء؛ فوجب أن يكون الابتداء واجبًا؛ لأنه مما لا يتم الأمر إلا به، وبذلك احتج ابن عباس في وجوب العمرة.
والجواب: أن موجب هذا الاستدلال يقتضى أن الابتداء غير مقصود با وجوب، وأنه إنما يراد لغيره لا لنفسه. وهو الإتمام؛ لأن هذا سبيل كل ما ورد من هذا الباب إذا لم ينص عن النبي بل فهم الأمر به من الأمر بغيره؛
الصفحة : 827
كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} أن ذلك يوجب طلب ما يتخطى إلي أخذ الماء، وليس هذا سبيل الابتداء بالعمرة. على أنا نحمله على الندب بما ذكرناه. واستدلوا بما روى عن عطاء عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "الحج والعمرة فريضتان واجبتان".
وروى عن عائشة -رضي الله عنه -أنها قالت: أعلى النساء جهاد يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم الحج والعمرة". وهذا مستند لما رويناه من الأخبار في سقط وجوبها. أن نحمله على الداخل فيها، والخبر الآخر على الندب؛ لأن الندب المتأكد قد يوصف بأنه على الإنسان كما يوصف الفرض بذلك، ولكن بدليل غير الظاهر.
واستدلوا بما روى أبو رزين أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: إن أبى لا يستطيع الحج والعمرة. فقال: "حج عن أبيك واعتمر" وهذا السؤال لا يصح على أصلنا؛ لأن حج الإنسان عن الإنسان غير واجب ولا ثابت، وإنما هو {ق/ 184] تطوع، ولا يسقط به فرض.
واستدلوا بما روى أن سراقة أو الأقرع قال للنبي صلى الله عليه وسلم -: أعمرتنا هذه لعامنا أو للأبد؟.
الصفحة : 828
فلو لم تكن واجبة لم يسأل عن تكرر وجوبها؛ لأن تكرر الوجوب فرع للوجوب.
وهذا غلط من المستدل؛ لأنه ليس في الخبر أن السائل سأل عن تكرر الوجوب، وإنما سأل عن تكرر الفعل، وقد يتكرر المسنون كما يتكرر المفروض؛ فلا طائل لهم في ذلك.
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تحج وتعتمر".
فالجواب: أن الإسلام يشتمل على المفروض والمسنون، وقد روى: "الإيمان بضع وسبعون خصلة: أعلاها الشهادة، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".
قالوا: ولأنها نوه عبادة من شرطها الطواف؛ فوجب أن يكون من جنسها واجب بأصل الشرع كالحج.
ولأنه أحد نسكى القران؛ فأشبه الحج.
ولأن العمرة كالحج في كثر الأحكام من وجوب الإحرام، والطواف، والسعي، ومنع الصيد والطيب واللباس وغير ذلك؛ فكذلك في الوجوب.
فالجواب: أن المعنى في الحج تعلقه بوقت مخصوص، وليس كذلك العمرة.
الصفحة : 829
فإن قيل: هذا لا ينفى الوجوب؛ لأن الطواف والإحرام واجبان، وليس لهما وقت مخصوص، وكذلك الكفارت.
قلنا: أما الطواف فله وقت معلوم، وهو يوم النحر؛ لأنه لو أتى به قبله لكان قد أتى به في غير وقته، وإنما جوز له تأخيره توسعة. والإحرام أيضا وقته معلوم، وهو أن يكون بعد الزوال من يوم عرفة أو قبل طلوع الفجر من ليلة النحر. هذا وقت تضييق وجوبه.
فأما الكفارات فإنها من حقوق الأموال فليست مما نحن فيه. قالوا: ولأنها عبادة تجب في إفسادها الكفارة؛ فوجب أن [] فيها نفلاً وفرضًا كالصوم.
فالجواب: أن وجوب الكفارة بالإفساد لا يدل على الوجوب بدلالة العمرة الثانية، والحجة الثانية، وإنما يدل على تأكد العبادة.
على أن المعنى في الأصل ما قلناه من تعلقه بوقت مخصوص. والله أعلم.
فأما قوله: إنها تكفى في العمر؛ فلما رويناه من سؤال السائل النبي -صلى الله عليه وسلم -أعمرتنا [] أم للأبد؟ فقال: "بل للأبد".
ولأن المشقة فيها كما في الحج؛ فكانت مثله [] تكررها.
الصفحة : 830