الكتاب : شرح الرسالة

في تصنيف : فقه مالكي | عدد الصفحات : 831

بحث في كتاب : شرح الرسالة

الفهرس


فأما الاستعمال فنقول: إنه يحتمل أن يكون أراد كهيئة صلاتنا في عدد السجدات، وصفة القيام والقعود دون عدد الركوع في الركعات بدلالة ما ذكرناه.
فإن قالوا: وأخبارنا أيضا [يحتمل] أن يكون سجد بين الركوعين فلم يروه الراوي، ونقله فعل الركوعين.
قلنا: إن هذا الاحتمال تدفعه العادات؛ فلا يلزم قبوله؛ وذلك أن خبرنا مشتمل على فعلين رواهما جماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم. وليس يجوز في مستقر العادة أن يتفق من عائشة وابن عباس وجابر وغيرهم من رواة هذه الأخبار في وقت واحد السهو عن سجوده دفعتين في الركعة الأولى وفي الآخرة وحفظ ما عدا ذلك.
ويتحمل الخبر ما تدفعه العادة لا يصح على أنه قد روى ما يسقط هذا؛ فروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها وصف صلاة الكسوف على الصفة التي ذكرناها، وقالت في آخر الحديث: (فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات). وهذا يسقط ما قالوه.
وأما الترجيح فمن وجوه:
أحدها: إن رواة أخبارنا أكثر عددا، وطرقها أصح سندا.
ولأن أخبارنا ناقلة ومجددة شرعا، وأخبارهم مبقية على الأصل.
ولأن في أخبارنا زيادة ليست في أخبارهم.
الصفحة : 46


ولأن أخبارنا حكاية مشاهدة وحضور للفعل من أوله إلى آخره، ومفسره لهيئته وصفته، وأخبارهم مجملة على ما رووه.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم ذلك؛ فافزعوا إلى الصلاة"، فلو [تركناه] وظاهره لاقتضى ذلك أن يصلى لها كسائر صلوات النفل، ولكن قام الدليل- وهو ما ذكرناه من الأخبار- على أن لنا من التعلق بهذا الخبر مثل ما لهم بل نحن أولى به، وذلك أنه قد روى في أخبارنا أنه قال هذا القول بعد فراغه من الصلاة التي وصفناها؛ فعلم أنه أشار بذلك إليها؛ لأنه أقرب معهود فكان حرف اللفظ إليها أولى. وإذا صح هذا بطل ما قالوه.
وقياسهم على سائر الصلوات باطل؛ لأنه يدفع السنة، ولأن الصلاة مختلفة في الهيئة والأفعال بزيادة ونقصان، ألا ترى أن صلاة العيدين تخالف سائر الصلوات بزيادة التكبير، وصلاة الكسوف أيضا تخالف بنية سائر الصلوات، سيما على أهلهم في المشي فيها؛ فلم يمتنع أن تخالف صلاة الكسوف أيضا سائر الصلوات فتختص بهذا المعنى.
ولا معنى لتقسيمهم كونها نافلة أو واجبة؛ لأن كونها نافلة لا يؤثر في مخالفة هيئتها لهيئة سائر الصلوات كصلاة العيدين، وكونها واجبة لا يمنع أيضا من ذلك كصلاة الخوف.
وقوله: إن الاختلاف إنما هو في عدد الركعات دون عدد الأركان غير صحيح؛ لأن الاختلاف في الأعداد هو اختلاف في الأركان لا محالة؛ بدلالة أنها تزيد بزيادة الأعداد وتنقص بنقصانها، والله أعلم.
الصفحة : 47


فصل
وقوله: إنها تصلى في المسجد؛ فكذلك روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في المسجد.
رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب [ق/11 أ] عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام فخطب الناس.
ورواه، وذكر الحديث.
فصل
وأما اختياره تطويل القراءة؛ فلما رويناه من حديث عائشة رضي الله عنها وابن عباس وأنه حزر قراءته صلى الله عليه وسلم فكان في الركعة الأولى كنحو من سورة البقرة، وفي الثانية نحو من سورة آل عمران.
وتطويل الركوع دون تطويل القراءة؛ على ما روى نصا في الحديث.
فأما السجود فإنه لا يطول كتطويلهما، بل يؤتى به على حسب ما يؤتى في سائر الصلوات.
ومن أصحابنا من يقول أيضا: إن السجود يطول فيه. وقول مالك أصح؛ لأنه لم يذكر في الحديث تطويل السجود.
فرع
رفع رأسه من الركوع الأول من الركعة الأولى، وأراد القراءة فهل يقرأ
الصفحة : 48


"الحمد" أم لا؟
قال مالك: يقرأ "الحمد"، وسورة طويلة. قاله جميع أصحابنا خلا محمد بن مسلمة؛ فإنه قال: يقرأ سورة غير "الحمد" ولا يقرأ "الحمد".
والدليل على صحة قول مالك- رحمه الله- هو أنها قراءة مستأنفة من أصل بنية الصلاة؛ فوجب أن تتقدمها قراءة أم الكتاب؛ اعتبارا بالركوع الأول.
وإنما قلنا: (مستأنفة)؛ احترازا من المتمادي في القراءة فإنها لا تحتاج إلى استئناف "الحمد"؛ لأنها قراءة مستدامة غير مستأنفة.
وإنما قلنا: (من أصل بنية الصلاة)؛ احترازا من قراءة سجود؛ لأنها لعارض وليس من أصل بنية الصلاة؛ فلم تحتج إلى قراءة "الحمد" لها.
وإنما قلنا: فوجب أن تتقدم "الحمد" لها؛ لئلا يقولوا نحن نقول بموجبها؛ لأنه إذا قرأ "الحمد" في الركوع الأول فقد قدمها لهذه القراءة.
واحتج محمد بن مسلمة بأن قال: لأن "الحمد" لا تقرأ في ركعة واحدة وإن كان فيها ركوعان فلم تتكرر "الحمد" فيها.
فيقال له: ولم إذا كانت ركعة واحدة لم تتكرر فيها قراءة "الحمد"؟.
الصفحة : 49


فإن قال: اعتبارا بسائر الصلوات.
قيل له: المعنى فيها أن الركوع لا يتكرر في الركعة الواحدة فيها، وليس كذلك صلاة الكسوف، والله أعلم.
فصل
ويسر القراءة في صلاة الكسوف، وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يجهر فيها بالقراءة؛ لما رواه الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بالعنكبوت والروم.
ولأنها نافلة يسن لها الجماعة؛ فوجب أن يكون من سنتها الجهر؛ اعتبارا بصلاة العيدين والاستسقاء.
والذي يدل على ما قلناه ما رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف فقام قياما طويلا نحو من سورة البقرة.
وهذا يدل على أنه أسر القراءة؛ لأنه لو كان جهر بالقراءة لذكر ما قرأ به ولم يحتج إلى تقديره وحزره.
ومن طريق آخر عن ابن عباس أنه قال: (وكنت وراءه فلم أسمع منه حرفا).
الصفحة : 50