الكتاب : روضة القضاة وطريق النجاة

في تصنيف : السياسة الشرعية والقضاء | عدد الصفحات : 1515

بحث في كتاب : روضة القضاة وطريق النجاة

لأنه مملوك اسمه ظاهر، كما هو ثابت في محضر شهد فيه قوم بذلك.
ولقد اختتمت تلك الدعوى الفاشلة وجهوده المتواصلة في التظلم منها بالمصالحة على ست مائة دينار يؤدي قاضي القضاة منها أربعمائة دينار.
صاحب الخبر:
ولكن ما فقده الرحبي من جاه النسب عوض عنه بعض العوض فقد نفق سوقه لدى نظام الملك الوزير السلجوقي فجعله صاحب خبره ببغداد، وأجرى له في كل سنة نحواً من سبع مائة دينار.
عقد نفسية:
هذا النسب الذي أخفق الرحبي في إثباته، وهذا المنصب المغمور الذي حصل عليه لم يدخل الطمأنينة والراحة على نفس هذا الفقيه المؤرخ اللغوي على ما يظهر، فقد ساءت حالته النفسية رغم المعاش الذي أجرى عليه وثقة الوزير به.
وقد أجرت عليه تلك "العقد النفسية" آلاماً شديدة ومصائب متوالية، لأن نسبه المفقود لم يعوض بمنصب غير مغمور، ولأن الناس في عصره لم تكن لتكبر الفقيه إذا ارتقى منصب القضاء فكيف بمن قنع بأن يكون "صاحب خبر" أي رئيساً للمخابرات السرية التي أقامها الوزير السلجوقي الدكتاتور لرصد أخبار العراق وأخبار الخلافة العباسية التي جردت من كثير من سلطاتها وأصبحت مجرد إطار يزين شرعية السلطة السلجوقية وإن حرصت أن تستبقي القضاء في قبضتها، ولقد حدثتنا المصادر حديثاً مقتضياً عن تلك الحياة المضطربة التي قضاها الرحبي السمناني في بغداد في منصبه الجديد غير قرير، حيث تقول الجواهر المضية أن السمناني "ظهر منه تهجم في القول في مجلس الوزير أبي شجاع فخرج توقيع المقتدي بأمر الله بتأديبه، وقرئ التوقيع في المركب في أول شهر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة".
وتناقل الناس في بغداد ذلك الحادث بالتعليق والتأويل، وكثرت الشائعات وفي هذا تقول الجواهر المضيئة (ج 1 ص 377).
الصفحة : 21


"وتداول أهل بغداد ما خرج في معناه، وجلس أياماً في دار بالقرب من دار الخلافة وحبس، وأطلق ولازم منزله، فورد نظام الملك إلى بغداد، وخاطب الخلفية فيه، وورد بعد ذلك بسنتين عميد الملك أبو منصور بن جهير فراعاه ولاحظه".
هذه الأخبار المضطربة والوقائع الدالة على مدى الاحتكاك بين الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية والصراع الخفي على اقتسام النفوذ في تلك الرقعة التي قامت فيها الإمبراطورية السلجوقية كان ضحيتها صاحب الخبر حيث قدر له أن يقيم بين شقي الرحى وأن يتكلف الخليفة الغضب عليه والأمر بحبسه وأن تسارع الدولة السلجوقية إلى التشفع له وإنقاذه.
دعواه إثباته النسب:
ولا يفوتنا بعد هذا وقد عرفنا طرفاً من سيرة هذا الفقيه المنكود أن نستعرض تلك المحاكمة التي حاول خوضها لإثبات نسبه وكيف أخفق فيها وما أعقب ذلك من تظلمه وصلحه لما في هذه المحاكمة من غرابة وطرافة وتصوير لأخلاق ذلك العصر لثبوت رقه بوثيقة دونت فيها شهادة شهود أعدت من قبل إعداداً محكماً فأسقط في يده ولم يحر جواباً، ولكنه عاد يتظلم من الحكم ثم اضطر إلى قبول التصالح مع القاضي الذي رد عليه دعواه.
لقد روى لنا حوادث هذه القضية، وسير المحاكمة فيها وطرق التظلم منها كتاب الجواهر المضية.
وتبدأ حوادث هذه القضية بوفاة أحد القضاة من أسرة السمناني ويدعى أبو الحسين بن أحمد بن جعفر بن محمد، فقد توفي سنة 466 هـ "فحضر (مجلس القضاة) أبو القاسم الرحبي غداة، وقد خرق ثيابه، وشوش عمامته وتخفى في مشيته، وفعل فعل أهل المصائب، وذكر أنه أخوه، وادعى أن القاضي أبا جعفر السمناني أبوه.
وتساءل الناس عن أسرة السمناني وعن سمنان التي تنسب إليها؟
الصفحة : 22


وبعد أن رفعت الستارة عن هذه البداية المسرحية وأسكت الجلاوزة اللغط وقطع على المتهامسين الهمس واستمع إلى أقوال أبي القاسم" لم يلتفت قاضي القضاة إلى دعواه "وكتب محضراً واخذ فيه خطوط جماعة".
وخرج أبو القاسم منكس الرأس يخط برجليه خطوط اليأس والغيظ والناس بين شامت به وبين ناقم على قاضي القضاة.
وفي الفصل الثاني من هذه المسرحية نجد أبا القاسم يطرق باب الخليفة متظلماً بأسلوب مسرحي آخر حتى "تقدم القائم بأمر الله بأن يعقد لأجله مجلس في دار الأستاذ أبي الفصل محمد بن عامر وكيله في المخزن "وأسدلت الستارة قليلاً لترتفع عن فصل آخر حيث" حضره كافة أهل العلم والقضاة والشهود ورفعت الستارة عن هذا الفصل الجديد المتوتر وقد انحت الرؤوس من نقل العمائم واشتبكت الأصابع باللحي، وقد تصدى للمدعي ابن المحسن وكيل زوجة المتوفي.
وبدأ بين الطرفين حوار خاطف فتقدم السمناني وهو يحدث نفسه حديث الواثق بصوت منخفض:
- لقد أعدت لكل شيء يقوله ابن المحسن وكيل الزوجة جواباً. ولكنه ما يكاد يخطو خطوتين حتى ينبري له ابن الحسن مخاطباً القاضي أبا الحسين محمد بن محمد البيضاوي:
- أيها القاضي إن هذه الدعوى لا تصح من هذا ثم يشير إلى المدعي قائلاً له بسخرية لاذعة واحتقار:
- أنت! أنت لا تصح منك الدعوى، لأنك مملوك! ويتهامس جمهور الحاضرين.
ويذهل علي السمناني من تلك التهمة التي رافقته من الرحبة إلى بغداد.
ويهم بالجواب
ولكن الوكيل يفحمه قائلاً:
-
الصفحة : 23


واسمك! اسمك ظاهر
ثم يخرج الوكيل من كمه محضراً بذلك وقد شهد فيه قوم بذلك فينشره ملوحاً به وتسدل الستارة والمدعي يستغيث:
- رباه! ما أظلم الإنسان
لقد تحيرت في أمري.
وها أنا ذا لا أجد من ينصرني.
أأنا مملوك حقاً؟
ولست حراً.
فتتوالى القهقهات وهو يقول:
- وأي ذنب لي في كل ما قدر لي! ألست إنساناً! ويسمع صوت يقول:
- ياللصلعوك إنه يتحدى المقدور؟
وتسدل الستارة بسرعة لترتفع عن قوم يتهامسون:
صوت- لقد عاد الفقيه المملوك أخيراً.
آخر- صه صه لقد عاد إلينا وكأنما هو غيره.
ثالث- وكيف أيها الرجل.
الصوت الثاني- إنه اليوم صاحب الخبر ببغداد ومن ورائه نظام الملك الوزير وجندي من جنود السلاجقة يتبعه كالظل لينقض كالصاعقة على من يشير إليه بطرف بنانه.
الصوت الثالث- إنه سينتقم
رابع كلا، إنه اليوم في محنة فقد ظهر منه تهجم في القول في مجلس الوزير أبي شجاع فخرج توقيع المقتدي بأمر الله بتأديبه وسيقرأ التوقيع في المركب ثم يحبس.
صوت آخر: والدولة السلجوقية؟ إن نظام الملك من ورائه، إنه سيعود إلى سابق عهده إن السلاجقة لا يرضون الهوان لأتباعهم.
الصفحة : 24


تلك هي فصول المسرحية التي شهدتها بغداد في زمن الخليفة القائم بأمر الله أو لقطات منها:
وفي خضم تلك الأحداث لم ينصرف السمناني عن التأليف فخلف لنا كتابه "روضة القضاة" يدعو فيه لقضاء عادل، قضاته على جانب كبير من العلم بالشرع والاجتهاد لو أمكن تحقيق حلمه المنشود.

ما أثمرته روضة القضاة:
أما وقد علمنا أن مصنف روضة القضاة كان ضحية من ضحايا القضاء فأخفق في اتباع نسبه من أسرة السمناني العراقية العريقة ولم ينصف في مجلس القضاء، ولا في مجلس التظلم وآب من دعواه بصلح يقاسي فيه مرارة الحرمان، حرمان ابن الجارية من نسب السيد مولاها كما هزمت أمه من قبل في صراعها مع السيدة زوجة قاضي القضاة أبي جعفر فبيعت بثمن بخس فهل أثرت تلك الأحداث على نفس المؤلف.
أجل لقد أثرت كل الأثر ولكنه تماسك وتجلد كما أشرنا فدل على نجابة وصلابة في الحق واتجه إلى التأليف ليحيط بتأليفه عالم الحق بما يمكنه من الضمانات الخلقية وعمد إلى تبسيط مؤلفه ليكون مرجعاً لا للعلماء والخاصة فقط بل للمتعلمين ليتعلم الجميع حقوقهم المقررة شرعاً وليتعلم الإنسان أن له كرامة وحقوقاً.
وأكبر الظن أن تلك الأحداث أثرت في نفسه تأثيراً عميقاً فحذر من تولية القاضي الجاهل لأن "البلية به أشد، لاسيما إذا اختصما في المعاملات والمواريث والمسائل المشكلة في الفروع التي يتجاذبها شبه الأصول".
وحذر من تولية "متهم في الحكم لئلا يجور" وكتب يقول: لا ينبغي أن يختار للقضاء "إلا من يغلب على الظن أنه أوفا مختار، وأكمل إنسان".
وينبغي لمن تملك الولاية أن يختار لهذه الرتبة من لا يقدر العالم على أصلح منه، ولا أفضل ولا أكمل، كما اختار الله تعالى لرسالته صفوة كل عالم، هذا
الصفحة : 25